فصل: الحكم الثاني: السفر الذي يبيح قصر الصلاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: قصر الصلاة في السفر:

دل قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاوة} على مشروعية قصر الصلاة في السفر لأن قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} معناه إذا سافرتم في البلاد، ولم يشرط الله تعالى أن يكون السفر للجهاد وإنما أطلق اللفظ ليعمّ كل سفر، وقد استدل العلماء بهذه الآية على مشروعية (قصر الصلاة) للمسافر ثم اختلفوا هل القصر واجب أم رخصة على مذهبين:
المذهب الأول: أن القصر رخصة فإن شاء قصر وإن شاء أتم، وهو قول الشافعي وأحمد رحمهما الله.
المذهب الثاني: أن القصر واجب وأن الركعتين هما تمام صلاة المسافر وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
وقال مالك: إن أتمّ في السفر يعيد ما دام في الوقت، والقصر عنده سنة وليس واجبًا.
دليل المذهب الأول:
احتج الشافعية والحنابلة على عدم وجود القصر بأدلة نوجزها فيما يلي:
أ- إن ظاهر قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاوة} يشعر بعدم الوجوب، لأن رفع الجناح يدل على الإباحة لا على الوجوب، ولو كان القصر واجبًا لجاء اللفظ بقوله: فعليكم أن تقصروا من الصلاة، أو فاقصروا الصلاة.
ب- ما روي أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قالت يا رسول الله قصرتُ وأتممتُ، وصمتُ وأفطرت، فقال: أحسنتِ يا عائشة ولم يَعِبْ عليّ.
ج- وقالوا: إن عثمان كان يتم ويقصر ولم ينكر عليه أحد الصحابة فدل على أن القصر رخصة.
د- وقالوا مما يدل على ما ذكرناه أن رخص السفر جاءت على التخيير كالصوم والإفطار، فكذلك القصر.
دليل المذهب الثاني:
واستدل الحنفية على وجوب قصر الصلاة في السفر بأدلة نوجزها فيما يلي:
أ- ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم.
ب- إن النبي صلى الله عليه وسلم التزم القصر في أسفاره كلها، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرًا صلّى ركعتين حتى يرجع».
ج- ما روي عن (عمران بن حصين) قال: «حججتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين، وقال لأهل مكة: صلوا أربعًا فإنّا قوم سَفْرٌ».
د- وقال ابن عمر: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى، وقد قال الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
ه- وما روي عن عائشة الثابت في الصحيح «فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين، فزيدت في الحضر وأُقرّت في السفر».
قالوا: فهذه هي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب اتباعه وقد قال عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فلمّا صلىّ في السفر ركعتين دلّ على أنه هو المفروض.

.الحكم الثاني: السفر الذي يبيح قصر الصلاة:

اختلف الفقهاء في السفر الذي يبيح قصر الصلاة، فذهب بعضهم إلى أنه لابد أن يكون (سفر طاعة) كالجهاد، والحج، والعمرة، وطلب العلم أو غير ذلك أو أن يكون مباحًا كالتجارة، والسياحة، وغير ذلك وهذا هو مذهب (الشافعية والحنابلة).
وقال مالك: كل سفر مباح يجوز فيه قصر الصلاة، فقد «روي أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين، فأمره أن يصلي ركعتين» قال ابن كثير هذا حديث مرسل.
وقال أبو حنيفة والثوري وداود: يكفي مطلق السفر سواء كان مباحًا أو محظورًا، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل، وحجتهم في ذلك أن القصر فرضٌ معيَّنٌ للسفر لحديث عائشة السابق «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيدت في الحضر وأقرت في السفر» ولم يخصّص القرآن سفرًا دون سفر فكان مطلق السفر مبيحًا للقصر حتى ولو كان سفر معصية.
قال ابن العربي في «أحكام القرآن»: «وأما من قال إنه يقصر في سفر المعصية فلأنها فرضٌ معيّن للسفر فقد بينّا في كتاب» التلخيص «فساده، فإن الله سبحانه جعل في كتابه القصر تخفيفًا والتمام أصلًا، والرّخَص لا تجوز في سفر المعصية كالمسح على الخفين».
أقول: ما ذهب إليه الجمهور من أن السفر المباح تقصر فيه الصلاة هو الأرجح لئلا نعينه على المعصية والله تعالى يقول: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} [المائدة: 2].

.الحكم الثالث: ما هو مقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة؟

1- ذهب أهل الظاهر إلى أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز القصر.
2- وذهب الشافعية والحنابلة والمالكية إلى أن أقله يومان، مسيرة ستة عشر فرسخًا.
3- وذهب الحنفية إلى أن أقله ثلاثة أيام، مسيرة أربعة وعشرين فرسخًا.
4- وقال الأوزاعي أقله مرحلة يوم، مسيرة ثمانية فراسخ. وقد مرت هذه الأقوال في آية الصوم مع الأدلة فارجع إليها هناك.
قال ابن العربي في الردّ على الظاهرية: «تلاعب قوم بالدين فقالوا: إنّ من خرج من البلد إلى ظاهره قصر الصلاة وأكل، وقائل هذا أعجميّ لا يعرف السفر عند العرب، أو مستخفّ بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه ما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أن أفكّر فيه بفضول قلبي، وقد كان من تقدم من الصحبة يختلفون في تقديره، فروي عن عمر، وابن عمر، وابن عباس أنهم كانوا يقدّرونه بيوم، وعن ابن مسعود أنه كان يقدّره بثلاثة أيام، يعلمهم بأن السفر كل خروج تُكلّف له وأدركت فيه المشقة».

.الحكم الرابع: كيف تصلى صلاة الخوف؟

ذهب الإمام أبو يوسف رحمه الله إلى أن ما اشتملت عليه الآية من الأحكام في صلاة الخوف، كان خاصًا بالرسول عليه السلام مع الجيش، أخذًا من ظاهر قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ}.
وذهب الجمهور إلى أن صلاة الخوف مشروعة، لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته، وقد أمرنا باتباعه والتأسي به، والأئمة هم خلفاؤه من بعده يقيمون شريعته وملته، فلا موجب للقول بالخصوصية.
ثم اختلفوا في كيفية الصلاة على أقوال عديدة حسب اختلاف الروايات عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال في «المغني»: «ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاّها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز» وقد اختار الإمام أحمد حديث (سهل بن أبي حثمة) وقد رواه الجماعة ولفظه عند مسلم كما يلي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الخوف، فصفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام فلم يزل قائمًا حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ثم سلّم».

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- قصر الصلاة في السفر وفي الخوف مع الإمام وغيره.
2- وجوب الاستعداد وأخذ الحيطة والحذر من الأعداء.
3- الصلاة لها أوقات محدودة فلا يباح الإخلال بها.
4- ضرورة الصبر وعدم الوهن والجزع من مجابهة الأعداء. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن تيمية في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} فَقَوْلُهُ: {يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ تَخُونُونَ أَنْفُسَكُمْ. زَادَ بَعْضُهُمْ: تَظْلِمُونَهَا. فَجَعَلُوا الْأَنْفُسَ مَفْعُولَ {تَخْتَانُونَ} وَجَعَلُوا الْإِنْسَانَ قَدْ خَانَ نَفْسَهُ أَيْ ظَلَمَهَا بِالسَّرِقَةِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أبيرق- أَوْ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ- وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ يَذْنِبُهُ الْإِنْسَانُ فَقَدْ ظَلَمَ فِيهِ نَفْسَهُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً. وَإِذَا كَانَ اخْتِيَانُ النَّفْسِ هُوَ ظُلْمُهَا أَوْ ارْتِكَابُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهَا كَانَ كُلُّ مُذْنِبٍ مُخْتَانًا لِنَفْسِهِ وَإِنْ جَهَرَ بِالذُّنُوبِ وَكَانَ كُفْرُ الْكَافِرِينَ وَقِتَالُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ وَكَذَلِكَ قَطْعُ الطَّرِيقَ وَالْمُحَارَبَةُ وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ الظَّاهِرُ وَكَانَ مَا فَعَلَهُ قَوْمُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي خَاصٍّ مِنْ الذُّنُوبِ مِمَّا يُفْعَلُ سِرًّا وَحَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} عَنَى بِذَلِكَ فِعْلَ عُمَرَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فشكى أَنَّهُ بَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ لَمَّا نَامَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَكَانَ مَنْ نَامَ قَبْلَ الْأَكْلِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ فَيَسْتَمِرُّ صَائِمًا فَأَصْبَحَ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنِ فَلَمَّا شَكَا حَالَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَدْت أَهْلِي اللَّيْلَةَ فَقَالَتْ إنَّهَا قَدْ نَامَتْ فَظَنَنْتهَا لَمْ تَنَمْ فَوَاقَعْتهَا فَأَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ نَامَتْ قَالُوا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي عُمَرَ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ}». وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْجِمَاعَ لَيْلَةَ الصِّيَامِ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ النَّوْمِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ قَبْلَ النَّوْمِ وَأَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ أَخَذَ يَلُومُ نَفْسَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَذِرُ إلَى اللَّهِ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْخَائِنَةَ إنِّي رَجَعْت إلَى أَهْلِي بَعْدَمَا صَلَّيْت الْعِشَاءَ فَوَجَدْت رَائِحَةً طَيِّبَةً فَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَجَامَعْت أَهْلِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنْت جَدِيرًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ» وَجَاءَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَذَكَرُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. فَهَذَا فِيهِ أَنَّ نَفْسَهُ الْخَاطِئَةَ سَوَّلَتْ لَهُ ذَلِكَ وَدَعَتْهُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ أَخَذَ يَلُومُهَا بَعْدَ الْفِعْلِ فَالنَّفْسُ هُنَا هِيَ الْخَائِنَةُ الظَّالِمَةُ وَالْإِنْسَانُ تَدْعُوهُ نَفْسُهُ فِي السِّرِّ إذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ إلَى أَفْعَالِ لَا تَدْعُو إلَيْهَا عَلَانِيَةٌ وَعَقْلُهُ يَنْهَاهُ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَنَفْسُهُ تَغْلِبُهُ عَلَيْهَا. وَلَفْظُ الْخِيَانَةِ حَيْثُ اُسْتُعْمِلَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا خَفِيَ عَنْ الْمَخُونِ كَاَلَّذِي يَخُونُ أَمَانَتَهُ فَيَخُونُ مَنْ ائْتَمَنَهُ إذَا كَانَ لَا يُشَاهِدُهُ وَلَوْ شَاهَدَهُ لَمَا خَانَهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} وَقَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَامَ: «أَمَا فِيكُمْ رَجُلٌ يَقُومُ إلَى هَذَا فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَلَّا أَوْمَضْت إلَيَّ؟ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «عَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» وَمَثَلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِنْسَانُ كَيْفَ يَخُونُ نَفْسَهُ. وَهُوَ لَا يَكْتُمُهَا مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ سِرًّا عَنْهَا؟ كَمَا يَخُونُ مَنْ لَا يَشْهَدُهُ مِنْ النَّاسِ؟ كَمَا يَخُونُ اللَّهَ وَالرَّسُولَ إذَا لَمْ يُشَاهِدْهُ فَلَا يَكُونُ مِمَّنْ يَخَافُ اللَّهَ بِالْغَيْبِ وَلِمَ خُصَّتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ بِأَنَّهَا خِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ دُونَ غَيْرِهَا؟ فَالْأَشْبَهُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} مِثْلَ قَوْلِهِ: {إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}. وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ فِي مِثْلِ هَذَا: إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَيُخْرِجُونِ قَوْلَهُ: {سَفِهَ} عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ؛ فَيَحْتَاجُونَ أَنْ يَنْقُلُوهُ مِنْ اللُّزُومِ إلَى التَّعْدِيَةِ بِلَا حُجَّةٍ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ- كَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ- فَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُمَيَّزَ قَدْ يَكُونُ مَعْرِفَةً كَمَا يَكُونُ نَكِرَةً وَذَكَرُوا لِذَلِكَ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: أَلِمَ فُلَانٌ رَأْسَهُ وَوَجِعَ بَطْنَهُ وَرَشَدَ أَمْرَهُ. وَكَانَ الْأَصْلُ سَفِهَتْ نَفْسُهُ وَرَشَدَ أَمْرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: غَبِنَ رَأْيُهُ وَبَطِرَتْ نَفْسُهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} مِنْ هَذَا الْبَابِ فَالْمَعِيشَةُ نَفْسُهَا بَطِرَتْ فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ... نَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} فَقَوْلُهُ: {سَفِهَ نَفْسَهُ} مَعْنَاهُ إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ أَيْ كَانَتْ سَفِيهَةً فَلَمَّا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ نَصَبَهَا عَلَى التَّمْيِيزِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنَّ ذَاكَ نَكِرَةٌ وَهَذَا مَعْرِفَةٌ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ أَصَحُّ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ السَّفِيهُ نَفْسُهُ: كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ تَخْتَانُ أَنْفُسُكُمْ فَالْأَنْفُسُ هِيَ الَّتِي اخْتَانَتْ كَمَا أَنَّهَا هِيَ السَّفِيهَةُ. وَقَالَ: اخْتَانَتْ وَلَمْ يَقُلْ خَانَتْ؛ لِأَنَّ الِافْتِعَالَ فِيهِ زِيَادَةُ فِعْلٍ عَلَى مَا فِي مُجَرَّدِ الْخِيَانَةِ قَالَ عِكْرِمَةُ: وَالْمُرَادُ بِاَلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ابْنُ أبيرق الَّذِي سَرَقَ الطَّعَامَ وَالْقُمَاشَ وَجَعَلَ هُوَ وَقَوْمُهُ يَقُولُونَ: إنَّمَا سَرَقَ فُلَانٌ لِرَجُلِ آخَرَ.